الموسيقا الكردية أنموذجاً
الحلقة الأولى
رودوست برزنجي*
ولدت الموسيقا مع ولادة الطبيعة ، وقبل ولادة الإنسان ، فأبدعت الطبيعة حين نسجت من روحها أجمل الألحان ، وحين ألهمت البشر لتقليدها فكانت المدرسة الأولى ، وكانت المعلم الأول .
منذ بدء الخلق ، بدأ الإنسان يصغي السمع لصوت الطبيعة ، فراعه ذلك تارةً ، وأدهشه تارةً ، وأثار إعجابه تارةً أخرى !
استمع إلى خرير المياه فسكنت روحه واستسلمت ؛ وأصغى لحفيف الشجر حين يسكن الليل فتعلمّ منها الهدوء ، وأدهشه تغريد البلابل ، وزقزقة العصافير ، فتعلم منها الحبّ والعطاء ، وأهابه عواء الذئاب ،فتعلم منها أخذ الحيطة والحذر وهكذا تعلمّ الإنسان من الأم الرؤوم ( الطبيعة )؛ ونهل من معينها واستزاد, فتميز عن باقي المخلوقات وتفوق عليها .
لقد أثبت الطب الحديث، أنه يمكن إجراء العمليات الجراحية بدون مخدر؛ وذلك بإصدار اهتزازات صوتية تجعل المريض لا يشعر بأي ألم ؛ وقد استخدمت الموسيقا قديماً ،كعلاج وشفاء لكثير من الأمراض النفسية في البيمارستانات ؛مثل البيمارستان النوري في دمشق، كما استخدم المتصوفة الموسيقا التي تجعل أرواحهم كأنها منفصلة عن أجسادهم؛ وأذهانهم متوجهة إلى حيث الإله في ملكوت السماوات العلا.
إذاً فالموسيقا تغذّي الروح، وتهذب النفس، وتريح الأعصاب، وهذه حقيقة يثبتها التجريب قبل التنظير، وقد أكدّ عدد من العلماء، أنّ القشرة الجبهية من المخ هي المنطقة الأكثر تأثراً بالموسيقا؛ وهي في الوقت عينه مرتبطة بالعواطف والشعور.
وللعودة إلى مصدر كلمة موسيقا نجد أن معناها ( الملهمة )، وهي كلمة يونانية تطورت فيما بعد لتعني الفنون ،ثم لتعني لغة الألحان والأحاسيس.
وقد تنوعت الموسيقا بتنوع الثقافات، وتدرجت بحسب غناها وثرائها أو عدمه، فعرفت الموسيقا اليونانية والفارسية والعربية والكردية والمغربية والأندلسية و..........الخ كما تطورت عبر الزمن، فتنوعت بين الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة و........
وللموسيقا أثرها البالغ في صقل شخصية الطفل وتسكين مزاجه؛ ويتوقف ذلك على نوع الموسيقا التي يسمعها الطفل، فالموسيقا الهادئة تخلق مزاجاً وطباعاً رائقاً، والموسيقا الصاخبة تخلق مزاجاً حاداً، وحالة من عدم الاستقرار النفسي لدى الطفل، ومعظم الأطفال يتأثرون بالموسيقا بشكل مباشر، فدندنة أغنية حزينة من الأم تكفي لجعل الطفل يبكي بحرقة.
ومن هنا تكمن ضرورة توجيه الأطفال نحو تعلم الموسيقا ،فسرعان ما يتعلّم الطفل وتتعود أذناه على سماعها ،وحتى على تمييز النشاز منها، فقد تكون الموسيقا في كثير من الأحيان أكثر جدوى وفائدة من تقديم النصائح التي قد لا يتقبلها الطفل بمجرد أنها مقدمة من الأهل؛ كأحد أساليب الرفض والتمرد عند بعض الأطفال والمراهقين، بالإضافة إلى ذلك فقد يكون سماع الموسيقا وتعلمها، أو العزف على آلة موسيقية محددة، أشبه بالواحة الخضراء التي يستريح فيها الطفل واليافع من يوم طويل مليء بالدراسة أو اللعب ؛بالإضافة إلى ذلك فإنّ الموسيقا علم وصنعة ،بل هي الآن صناعة بحدّ ذاتها، وقد خرجت بفضل التطور الثقافي والمعرفي والتقني من إطار كونها وسيلة للمتعة تقتصر على طبقة محددة من الناس؛ إلى كونها علماً راقياً يحظى عارفوه بالاحترام والتقدير في المجتمع؛ كما تعتبر دراسة الموسيقا وتعلمها وتعليمها أحد أشكال الحفاظ على تراث الشعوب؛ ومرآة لتطور حضارتها وغنى إرثها الإنساني والفكري .
وإذا ما درسنا تاريخ الموسيقا الكردية على سبيل المثال، فإننا نجدها من أكثر الموسيقات تميزاً وتأثيراً على غيرها من الموسيقا في منطقة الشرق الأوسط ؛ بسبب تنوعها بين الملحمة الشعبية، والأغنية الفولكلورية ،والأغنية المؤداة مع الرقص الشعبي، والموسيقا الدينية، بالإضافة إلى الأغنية العاطفية والقومية والثورية .
وقد تأثرت الموسيقا الكردية كغيرها بطبيعة المكان، وتميزت أصوات الفنانين الكرد بالقوة في المناطق الجبلية من كردستان، وبالرقة في مناطق السهول، وبفضل الطبيعة الجغرافية المتنوعة في كردستان، تنوعت الموسيقا والألحان والاصوات الغنائية، وعرف الكرد آلاتٍ موسيقية كثيرة، كالطمبور والبزق والناي والطبل والعود والكمنجة وغيرها .
وما يدعو للأسف هو قلة المصادر التاريخية التي أرخت الموسيقا الكردية من جهة؛ وعدم وجود مراكز أبحاث كوردية، قادرة على تصحيح الكثير من الزيف التاريخي، في نسب كل نتاج حضاري كردي إما إلى العرب أو إلى الفرس وأحياناً إلى الترك، من جهةٍ أخرى، ويعود ذلك إلى وضع الشعب الكردي السياسي، ومعاناته ،وسياسات الأنظمة الحاكمة له،والتي تخطط من أجل طمس معالم حضارته، وتاريخه، وهويته القومية .
وبالعودة إلى تاريخ الموسيقا الكردية، فقد أكدت بعض المصادر، على قدم وتجذر الموسيقا الكردية، إلى فترة ( هريان ) ، وهم من أسلاف الكرد الحاليين، كما ذكرت أنّ الزرادشتيين كانوا يرددون التراتيل الدينية في معابدهم (لاله ش) .
وفي العهد الإسلامي، تميز من الموسيقيين الكرد الموسيقار ( زرياب ) ، ومعظم المؤرخين الذين كتبوا عنه يعدونه فارسي الأصل، ومعروف أن الكثير من المؤرخين قد أختلط عليهم الأمر في مسألة اعتبار الكرد فرساً أحياناً ؛ وأحياناً أخرى عجماً، ويقول الزركلي في كتابه ( الأعلام) ،أن اسم زرياب هو بالأساس( زير آب) ،والذي يعني بالكردية ماء الذهب وقد حسمت الباحثة الألمانية (زيغريد هونغه ) في كتابها ( شمس العرب تسطع على الغرب ) الأمر، بقولها زرياب فتى كردي .