لمحة قصيرة عن تاريخ الكرد في سوريا
برادوست ميتاني
يعد الشعب الكردي من الشعوب القديمة في منطقة الشرق الأوسط وقد اشترك مع غيره من الشعوب الأخرى في بناء حضارة بلاد الرافدين المعروفة سابقاً باسم (موزوبوتاميا)والتي تشكل جزءاً من جغرافية بلاد الكرد المعروفة باسم كردستان كما أنه ظل في دوره المعطاء حتى بعد اقتسام بلاده الذي حدث خلال مرحلتين الأولى بعد معركة جالديران 1514م بين الصفويين في إيران والعثمانيين في الأستانة والثانية في اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية 1916م بين فرنسا وانكلترا.
في هذه القراءة السريعة لتاريخ الشعب الكردي لن نتطرأ إلى دوره في بقية الأجزاء الأخرى بل نكتفي به في تاريخ سوريا فقط لنؤكد لأولئك الذين ينكرون على الكرد حقوقهم الوطنية بأنهم خلال تاريخهم الطويل والعريق في سوريا لم يتهاونوا أبداً في القيام بدورهم المعطاء في منح سوريا الحصانة والعمران بل الدفاع عنها بكل شجاعة ومسؤولية صادقة .سواء خلال تاريخها القديم الذي يعود إلى ما قبل الميلاد في وجه الغزاة كالحثيين والفراعنة المصريين والأشوريين أو خلال الفترات التي تلت الميلاد عندما قاوموا الحملات الصليبية و الاحتلال العثماني وكذلك مساهمة الكرد مع الشعب السوري في الثورات الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي حتى نيل سوريا استقلالها مستمرين في الدفاع عنها حتى الآن دون كلل.
مراحل تاريخية للكرد في سوريا:
1ـ يعيش الكرد منذ فجر التاريخ في الجزء الشمالي من سوريا على أرض ممتدة حاليا ً شرقا ً من عين ديوار على نهر الدجلة مسايرة الحدود التركية حتى جبال أمانوس غرباً بامتدادات جغرافية نحو الجنوب تضيق وتتسع باتجاه الحسكة وحلب وادلب وغيرها مع انتشارهم في بقية المحافظات السورية وخاصة العاصمة دمشق.
لقد شهدت البقعة الجغرافية التي يسكنها الكرد في شمال سوريا تواجداً بشرياً يعود إلى العصور الحجرية حيث مرحلة الإنسان القديم ( إنسان نياندرتال) إذ عثرت اللجنة اليابانية السورية الأثرية برئاسة البروفسور
( تاكيراأكازوا) في منطقة كرداغ ناحية شيروان في كهف دودري في جبل ليلون على هيكل عظمي عام 1993 يعود إلى مائة ألف عام قبل الميلاد وكذلك على لقى أثرية مع بعض الأشكال المصنوعة من حجر الصوان وهو محفوظ الآن في حلب باسم اكتشافات أطفال دودري.
2ـ الهوريون : يعود تاريخهم إلى الألف الثالث قبل الميلاد عندما امتدت دولتهم إلى بحيرة وان شمالي شرقي ما بين النهرين وأسسوا عاصمة قريبة من مدينة نصيبين حالياً وقد توسعت إدارياً حتى سهل الحمكة( العمق)حيث أقاموا مملكة ألالاخ 2700ق.م و التي ظلت تلعب دورها حتى 1900ق.م حيث انتهت على يد الفرعون المصري سنوسرت ولكن الهوريين استمروا في انتفاضاتهم وثوراتهم التي لم يكتب لها النجاح بسبب بطش ووحشية الفراعنة إزاءهم إلا بعد أن تمكن الميتانيون من تحريرهم عام 1600ق.م .
3ـ الميتانيون والهوريون:
اندمج الميتانيون مع الهوريين عندما تحركوا من المناطق المحيطة ببحر الخزر (_ القزوين ) وأصبح كلاهما سادة المنطقة عندما أسسوا عاصمة اشوكاني القريبة من سري كانيي حاليا ( رأس العين ) في الجزيرة السورية في منتصف الألف الثاني قبل البلاد على نهر الخابور وقد دافع الميتانيون والهوريون عن سورية ضد المحاولات الحثية لاحتلالها القادمين من الأناضول وقد حققوا عليهم انتصارات جعلتهم يقلصون نفوذهم على عاصمتهم خاتوشا واطرافها الشمالية .
لقد امتدت دولة الميتانيين الهوريين شمالاً حتى شمال مدينة امد (ديار بكر ) ثم نحو حران وإلى جبال Gewre
( أمانوس) وصولاً إلى انطاكية وأوغاريت على الساحل السوري ثم الحدود اللبنانية جنوباً بعدها إلى حماة وحلب عبر سهولHewler (أربيل) ثم إلى جبال زاغروس وأيلام شرقاً كما إن بعض الباحثين يجزمون بأن لهم يد في حكم مصر مع الهكسوس الذين غزوها من فلسطين حيث بينهم صلة قرابة عرقية .
شن الأشوريون حرباً على سورية ولكنهم اصطدموا بالممانعة الميتانية الهورية الذين وقفو في وجه زحفهم وردهم على أعقابهم في النصف الثاني من الألف الثاني قبل اليلاد ملحقين بهم هزائم حتى في عقر دارهم في العاصمة بابل التي احتلها الملك ساوشاترا الذي جلب معه منها كمية كبيرة من الذهب والفضة حيث وضعها في قصره في العاصمة أشوكاني دليلا على النصر .
بسبب تجاور مملكة يمخاض ( حلب ) والإمبراطورية الميتانية الهورية إلى جانب بعضهما كان الصراع حتميا ً بينهما في عهد ملك مملكة يمخاض المدعو أدريمي الذي حاول الوقوف في وجه الميتانيين والحد من نفوذهم ولكنه لم يتمكن من الاستمرار في ذلك إذ هرب أمامهم تاركا ً حلب إلى البادية حيث قبائل سوتو ولكنه اضطر إلى توقيع صلح معهم
- 1 -
لقاء اعترافه بحكمهم على حلب دون دخولها من قبله ثانية .
الصراع الطويل والمميت كان الذي وقع بين الميتانيين الهوريين والفراعنة في مصر والذي أدى في نهايته إلى استقرار ملحوظ وتوازن سياسي مهم في المنطقة برمتها ( بلاد الشام والرافدين ووادي النيل ) استمر طوال حكم الإمبراطورية الميتانية الهورية وليس خاف على أحد بأن إمبراطورية الفراعنة في مصر كانت أقوى امبراطورية حينذاك تتطلع إلى السيطرة على سواحل حوض البحر الأبيض المتوسط من الجنوب والشرق في سبيل ذلك قادت حروباً عديدة وعنيفة مكنتها من النجاح في السيطرة على مناطق بلاد الشام باستثناء شمال سوريا بسبب دخول الميتانيين مع بقية الممالك الجنوبية في سورية في حلف قادش( تل مندو حاليا ً قرب حمص) السياسي العسكري حيث كانت رغبة المصريين هي الوصول إلى سواحل الشرقية للبحر المتوسط كبوابة استراتيجية إلى أوربا ولكن كان مصيرهم الفشل في تحقيق هذا الهدف بسبب ممانعة الميتانيين لهم عندما وقفوا في زحفهم على ضفاف نهر الفرات وبعد حروب تجاوزت سبعة عشرة حملة عسكرية يئس الفراعنة من كسر شوكة الميتانيين لذا لجأوا إلى الإسلوب السلمي السياسي وقد شهدت العلاقات بعد ذلك نجاحا ً باهراً ساده استقرار ووئام أساسه المصاهرة بين العائلتين الحاكمتين عندما تزوج الفرعون تحوتمس الثالث من ابنة الإمبراطور الميتاني التي اسمها ( كلوكيبا ) ومن بعده امنحوتب الرابع من ماتمايا (نفرتيتي . التي تعني نفرت ـ تي ـ الحسناء قادمة)عندما استفاد الميتانيون من الذهب المصري الكثير.
ظل الحثيون متربصين للميتانيين الهوريين يشكلون اكبر خطر على حدودهم الشمالية بطبيعتهم العسكرية العنيفة متجنبين الأساليب الدبلوماسية (إذ يشبهون الأشوريين في هذا) وقد سعوا دائماً إلى النيل من الميتانيين بجميع الأساليب النكراء كالخداع والتأليب بين الميتانيين عندما نجحوا في التأثير على المدعو ماتي وازا الذي دعموه ضد الملك آرتاتاما بعد تزويجه ابنتهم هذا الشخص الذي أصبح أداة طيعة بأيديهم في تمزيق شمل بني جلدته وقد نجحوا في ايصاله إلى السلطة ضعيفا ً دون شخصية ومن الجدير ذكره هو بقاء الحثيين عليه على رآس السلطة الميتانية لتبقى دولته حاجزا ً بينهم وبين التوسع الآشوري من بابل ولقد انقلب السحر على الساحر عندما غزت الثقافة الهورية الدولة الحثية في كل المجالات أدت إلى إضعافها وبعد فترة زمنية معينة انبعثت الدولة الهورية من جديد بدون شراكة الميتانيين ويظن المؤرخون بأن عاصمتهم انتقلت من واشوكاني إلى أوركيش وفي ظل غياب المصادر التي تغني البحث في هذه الدولة انتهت على يد الاشوريين عام 750 ق.م الذين تحرروا من الكاشيين في نينوى (على مقربة من موصل الحالية في شمال العراق) .
من الآثار المكتشفة في الجزيرة السورية نستلهم حقيقة مفادها أن الميتانيين والهوريين أقاموا حضارة عريقة جدا ًإذ تم العثور على بعض أثارهم عندما تم كشف النقاب عنها من قبل عالم الآثار جيورجيو بوتشيلاني في كري موزان ( تل موزان) قرب عامودة حيث عثر على قصر الملك الهوري توبكيش وكذلك من قبل الباحث ماكويل مالاونا الذي عثر على مواقع آثرية في شاخر بازار جنوب مدينة قامشلو وكذلك في سهل حمكة (العمق) تم العثور على آثار مملكة آلالاخ بالإضافة إلى آثار أخرى في وادي العاصي ووادي الخابور ويقول الباحث واولي إن المكتشفات كالقرميد والزجاج وإسلوب البناء والعمارة في آلالاخ أشياء لاتختلف عن تلك التي أخرجت من مواقع أثرية بين دجلة والفرات.
ثمة آثار شاهدة حتى الآن في منطقة كرداغ تعود إلى الحقبة الميتانية الهورية منها قلعة هورو (مزار هورو المقدس ) المعروفة باسم مدينة كورش بالإضافة إلى قرية تحمل حتى الآن اسم شاشترا المأخوذة عن اسم الملك الميتاني شاوشتار .أما في منطقة تل براك الواقعة على طريق الحسكة قامشلو فقد تم العثور على رقم طينية مكتوبة باللغة الهورية ذو الكتابة المسمارية ناهيك عن المكتشفات الجديدة في الأعوام الأخيرة.
أما في أوغاريت على الساحل السوري فقد عثر المنقبون على آثار فنية عديدة وهي هورية تعد موزايكا ً من الثقافة الأوغاريتية الهورية السومرية حيث كانت اللغة الهورية اللغة الرائجة استعمالا ً في المعاملات التجارية كما هي الآن بالنسبة للإنكليزية وقد تم العثور في الموقع نفسه قبل سنوات على نوطة موسيقية بناءا ًً على خبر ثقافي من التلفزة السورية تم فك هذا السلم الموسيقي فتبين بأنه قريب من اللحن الكردي الحالي في الجزيرة السورية .
لقد ترك الميتانيون آثارهم الدينية في معتقدات المصريين الفراعنة من خلال الدور الذي لعبته نفرتيتي في تغيير الديانة المصرية من ثنائية الإله إلى وحدانيته عندما جعلت من الفرعون أمنحوتب الرابع داعية ديني في التخلي عن ألوهيته في الأرض إلى جانب إله السماء ( رع ) حيث آمن بأنه عبد للإله كغيره من العباد فغير اسمه إلى أخن آتون أي خادم آتون الذي هو إله السماء وقد استمدت
نفر تيتي اعتقاداتها من أجدادها الآريين وآلهتهم أناهيتا ( نجمة الزهرة ) وميترا ( القمر ) والتي تقاطعت فيما بعد مع الزرادشتية في الكثير من مبادئها الروحية .